Репост из: بناء الوعي
"التفاوت بين الموقفين العقدي والسياسي"
كون حركتنا قائمة على السياسة الشرعية يلقي في روع الكثيرين حتمية التلازم بين الموقف السياسي والموقف العقدي، فهل الحقيقة هي هكذا دائما ؟
إننا نجد أن العلاقة بينهما تحكمها مجموعة من المحددات، أهمها ما يلي :
أولا : إن الأصل في الموقف السياسي أن يكون تعبيرا عن الموقف العقدي (الذين آمنوا يقاتلون في سبيل الله والذين كفروا يقاتلون في سبيبل الطاغوت) [النساء - 76] ، وهذا هو الأصل الغالب على الحياة والأحياء، وهو يمثل الخط الكبير للابتلاء في الحياة الدنيا (ذلك ولو يشاء الله لانتصر منهم ولكن ليبلو بعضكم ببعض) [محمد - 4] ، فلا يمكن تجاوزه إلا مع تحريف حقائق الشرع (ولا يزالون يقاتلونكم حتى يردوكم عن دينكم إن استطاعوا) [البقرة - 217] ، والغفلة عن حقائق الواقع (وما نقموا منهم إلا أن يؤمنوا بالله العزيز الحميد) [البروج - 8] .
ثانيا : لكن ذلك الأصل توجد استثناءات منه في الواقع، لاعتبارات أخرى - غير الموقف العقدي - تغلب عند البعض، فأبو طالب وكفار بني هاشم غلبوا رابطة النسب فحموا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من كفار قريش، ومن أجار النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى يدخل مكة بعد رحلة الطائف كان مشركا، كما إن الذين سعوا في نقض صحيفة مقاطعة المسلمين وبني هاشم كانوا كفارا أيضا، بل كان الدليل في الهجرة النبوية رجلا مشركا، كما أن قبيلة خزاعة حلفاء عبدالمطلب جد النبي - صلى الله عليه وسلم - ظلوا حلفاء ناصحين له - صلى الله عليه وسلم - في الجاهلية والإسلام .
ووجود هذه الاستثناءات (ألا يعاديك في السياسة من هو عدو في العقيدة) من الرحمة التي يفرج الله بها عن عباده، ويتيح لهم بها من الفرص ما لا يتسنى بدونها، فحسن فهمها بما يترتب عليه من حسن التعامل معها يفتح الآفاق، ويخفف التضييق، ويتيح مساحة من الحركة الممكنة بمكتسبات - ولو ضعيفة - في ظل الظروف الصعبة .
بل إن صناعة ودعم هذه الاستثناءات مما هو مطلوب شرعا، إذ هو من جنس تقليل الأعداء المحاربين في الواقع، وتفريق الخصوم، وإضعاف تكتلهم ضد الإسلام والمسلمين - ولو باعتبارات متعددة غير دينية - ، ولا تستطيع حركة تغييرية عاقلة أن تتحرك في محيط عام غير متوافق معها إلا بمثل هذه الممارسات التي تزيد من الفرص الاستثنائية للوجود والتأثير، أما ممارسة ضد هذا فهو من الحماقة التي أعيت من يداويها .
ثالثا : وفي ممارستنا نحن أيضا نراعي هذا التفاوت، فبينما يتسم الموقف العقدي بالثبات المبدئي - ولو في أصله على الأقل - ، لبنائه على حقيقة الإيمان التي يمثل النقص فيها خللا لا يجوز التهاون معه، يتسم الموقف السياسي بالمرونة اللحظية - وإن كان ذلك في ظل أهداف المبادئ الثابتة - ، لبنائه على محددي الاستطاعة والمصلحة في ظل معطيات الواقع الظرفي .
ولذلك تقرر عند علماء السياسة الشرعية أن إمام المسلمين هو الذي يقرر من الذين نحاربهم، ومن الذين نصالحهم، ومن الذين نتاركهم، مع أنهم جميعا ممن تشرع محاربتهم. كما قرروا أيضا أن الإمام مخير في الأسرى من الكفار بين قتلهم، أو مبادلتهم بأسرانا، أو فدائهم بمقابل، أو استرقاقهم، أو حتى المن عليهم وإطلاق سراحهم. ولهذين نظائر كثيرة في تطبيقات السياسة الشرعية، والتي تركت مساحة واسعة لاختيار الإمام في ظل توجيهات ثابتة. وتقرر عندهم أيضا أن كل ما كان مردودا إلى رأي الإمام فهو معلق بالمصلحة، ويجب على الإمام اختيار ما هو الأصلح للمسلمين .
إن وجود الاستثناء هو الذي يدعم حقيقة وجود القاعدة، فلو لم تكن هناك قاعدة لما كان ما يخالفها استثناء. وإن وضع كل واقع في مكانه الصحيح تصورا وتفسيرا، لهو مقدمة ضرورية لصواب تنزيل الأحكام الشرعية، بما يحقق المصالح المحبوبة لله - تعالى - في الظروف المتعددة .
الشيخ أشرف عبدالمنعم
كون حركتنا قائمة على السياسة الشرعية يلقي في روع الكثيرين حتمية التلازم بين الموقف السياسي والموقف العقدي، فهل الحقيقة هي هكذا دائما ؟
إننا نجد أن العلاقة بينهما تحكمها مجموعة من المحددات، أهمها ما يلي :
أولا : إن الأصل في الموقف السياسي أن يكون تعبيرا عن الموقف العقدي (الذين آمنوا يقاتلون في سبيل الله والذين كفروا يقاتلون في سبيبل الطاغوت) [النساء - 76] ، وهذا هو الأصل الغالب على الحياة والأحياء، وهو يمثل الخط الكبير للابتلاء في الحياة الدنيا (ذلك ولو يشاء الله لانتصر منهم ولكن ليبلو بعضكم ببعض) [محمد - 4] ، فلا يمكن تجاوزه إلا مع تحريف حقائق الشرع (ولا يزالون يقاتلونكم حتى يردوكم عن دينكم إن استطاعوا) [البقرة - 217] ، والغفلة عن حقائق الواقع (وما نقموا منهم إلا أن يؤمنوا بالله العزيز الحميد) [البروج - 8] .
ثانيا : لكن ذلك الأصل توجد استثناءات منه في الواقع، لاعتبارات أخرى - غير الموقف العقدي - تغلب عند البعض، فأبو طالب وكفار بني هاشم غلبوا رابطة النسب فحموا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من كفار قريش، ومن أجار النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى يدخل مكة بعد رحلة الطائف كان مشركا، كما إن الذين سعوا في نقض صحيفة مقاطعة المسلمين وبني هاشم كانوا كفارا أيضا، بل كان الدليل في الهجرة النبوية رجلا مشركا، كما أن قبيلة خزاعة حلفاء عبدالمطلب جد النبي - صلى الله عليه وسلم - ظلوا حلفاء ناصحين له - صلى الله عليه وسلم - في الجاهلية والإسلام .
ووجود هذه الاستثناءات (ألا يعاديك في السياسة من هو عدو في العقيدة) من الرحمة التي يفرج الله بها عن عباده، ويتيح لهم بها من الفرص ما لا يتسنى بدونها، فحسن فهمها بما يترتب عليه من حسن التعامل معها يفتح الآفاق، ويخفف التضييق، ويتيح مساحة من الحركة الممكنة بمكتسبات - ولو ضعيفة - في ظل الظروف الصعبة .
بل إن صناعة ودعم هذه الاستثناءات مما هو مطلوب شرعا، إذ هو من جنس تقليل الأعداء المحاربين في الواقع، وتفريق الخصوم، وإضعاف تكتلهم ضد الإسلام والمسلمين - ولو باعتبارات متعددة غير دينية - ، ولا تستطيع حركة تغييرية عاقلة أن تتحرك في محيط عام غير متوافق معها إلا بمثل هذه الممارسات التي تزيد من الفرص الاستثنائية للوجود والتأثير، أما ممارسة ضد هذا فهو من الحماقة التي أعيت من يداويها .
ثالثا : وفي ممارستنا نحن أيضا نراعي هذا التفاوت، فبينما يتسم الموقف العقدي بالثبات المبدئي - ولو في أصله على الأقل - ، لبنائه على حقيقة الإيمان التي يمثل النقص فيها خللا لا يجوز التهاون معه، يتسم الموقف السياسي بالمرونة اللحظية - وإن كان ذلك في ظل أهداف المبادئ الثابتة - ، لبنائه على محددي الاستطاعة والمصلحة في ظل معطيات الواقع الظرفي .
ولذلك تقرر عند علماء السياسة الشرعية أن إمام المسلمين هو الذي يقرر من الذين نحاربهم، ومن الذين نصالحهم، ومن الذين نتاركهم، مع أنهم جميعا ممن تشرع محاربتهم. كما قرروا أيضا أن الإمام مخير في الأسرى من الكفار بين قتلهم، أو مبادلتهم بأسرانا، أو فدائهم بمقابل، أو استرقاقهم، أو حتى المن عليهم وإطلاق سراحهم. ولهذين نظائر كثيرة في تطبيقات السياسة الشرعية، والتي تركت مساحة واسعة لاختيار الإمام في ظل توجيهات ثابتة. وتقرر عندهم أيضا أن كل ما كان مردودا إلى رأي الإمام فهو معلق بالمصلحة، ويجب على الإمام اختيار ما هو الأصلح للمسلمين .
إن وجود الاستثناء هو الذي يدعم حقيقة وجود القاعدة، فلو لم تكن هناك قاعدة لما كان ما يخالفها استثناء. وإن وضع كل واقع في مكانه الصحيح تصورا وتفسيرا، لهو مقدمة ضرورية لصواب تنزيل الأحكام الشرعية، بما يحقق المصالح المحبوبة لله - تعالى - في الظروف المتعددة .
الشيخ أشرف عبدالمنعم